التوجه شرقاً - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة
في عالمٍ يسود فيه نموذج الدولة القومية الحديثة، بكل ما تعنيه من أنانية وهاجس أمني، تسيطر عليه قيم وحركة الصراع، عن التبصر في إمكانات وعوائد التكامل والتعاون، لا يمكن استراتيجياً، تحديد، بدقة، من أين يأتي الخطر.. ولا الاطمئنان على خدمة مصالح الدولة ضمن بيئة إقليمية ودولية، تحكمها ثارات تاريخية.. وتعقيدات ثقافية.. وتعصبات دينية.. وخلفيات أيديولوجية.. وأطماع توسعية، بكل ما يترتب على ذلك من حالة عدم استقرار لأي نظام عالمي قائم، تحكمه قوىً عالمية تتنافس على مكانة الهيمنة الكونية الرفيعة.. ولا تتوفر به مؤسسات سياسية ونصوص قانونية ولا سلطات تنفيذية، تفرض قوانينه وتتحكم في سلوك أعضائه.

الدول الفاعلة في النظام الدولي، الذي أنشئ عقب الحرب العالمية الثانية، لم تحسم رؤيتها لمستقبل السلام، بقدر ما كان تركيزها على إدارة الصراع، في مرحلة ما بعد الحرب، حتى مع تطور سلاح غير تقليدي (نووي) لا يمكن استخدامه، ولا حتى التهديد باستخدامه. على الجبهة الغربية (الأوروبية) لم تحصل دولة بعينها على عوائد حصرية من هزيمة ألمانيا النازية، بل حُكمت ألمانيا من قِبَلِ أربع دول كبرى، بينها تاريخ ممتد من الصراع وعدم الثقة. تقريباً؛ نفس النتيجة، التي انتهت بها الحرب العظمى (١٩١٤-١٩٣٩).

حتى استخدام القنبلة النووية لإنهاء الحرب على جبهة الباسفيك الشرقية لم ينتج عنه حالة من الاستقرار بهزيمة إمبراطورية اليابان. سرعان ما اندلعت الحرب على جبهتي كوريا (١٩٥٠-١٩٥٣) وفيتنام (١٩٦٥-١٩٧٥). في الأولى لم تستطع الولايات المتحدة حسمها.. وووجِهت في الثانية بهزيمة استراتيجية مدوية، أضرت بسمعة الولايات المتحدة الكونية، لتتحول جبهة غرب الباسفيك، بعد سبعة عقود ونصف، لتصبح الجبهة الأكثر تحدياً لمكانة الولايات المتحدة الأممية، بل وسلام العالم.

عدو الولايات المتحدة الاستراتيجي الأول، هذه الأيام، كما أعلنت إدارة الرئيس ترمب، هي: الصين، وليس الدب الروسي، على جبهة الأطلسي؛ الذي يتوارى، متربصاً، شرق جبال الأورال، للانقضاض على الدفاعات الأمريكية المتقدمة، غرب أوروبا. العقيدة الإستراتيجية الأمنية الحالية للولايات المتحدة ترى أن تكلفة الدفاع عن أوروبا صفقة خاسرة استراتيجياً، وأنه من الأفضل تركيز موارد واشنطن نحو جبهة غرب الباسفيك (الصين)، لأن ذاكرة الهجوم الياباني على بيرل هاربر (ديسمبر ١٩٤١) لم تُمْحَ من الذاكرة بعد. لهذا نجد الولايات المتحدة تركز على أمن حلفائها على جبهة الباسفيك (تايوان، اليابان، كوريا الجنوبية)، بينما تكاد تتخلى عن التزاماتها الأمنية على جبهة الأطلسي غرب أوروبا، باستثناء بريطانيا، إلى حدٍ ما.

أخبار ذات صلة

 

الولايات المتحدة، التي تُوِّجَت زعيمة وحاكمة لنظام الأمم المتحدة، على الأقل من وجهة نظر حلفائها شمال شرق الأطلسي، نراها مستعدة للتخلي عن هذه الجبهة، للتركيز شرقاً على جبهة الباسفيك. الأمر الذي دفع دول أوروبا الغربية إلى البحث عن بدائل استراتيجية لأمنها، تعتمد فيها، أولاً وأخيراً، على مواردها الذاتية، غير تلك التي ركنت عليها بعد الحرب الكونية الثانية. استشعر حلفاء الولايات المتحدة في الاتحاد الأوروبي الخطر من حليفهم الاستراتيجي غرب الأطلسي عندما فقدت واشنطن الحماس تجاه الحرب الروسية على أوكرانيا، لدرجة إغفال مصالح الحلفاء، بالذات الأمنية، في معاهدة حلف شمال الأطلسي (النِتو)، برؤية واشنطن الجديدة؛ إنهاء الحرب الروسية على أوكرانيا، بالضغط على كييف، لا على موسكو! مما زاد من قلق دول الاتحاد الأوروبي ضم إدارة الرئيس ترمب حلفاءها الغربيين لقائمة الدول التي شملتها حرب واشنطن التجارية على العالم، بدعوى خفض الميزان التجاري الأمريكي، مع تقريباً جميع دول العالم!

باختصار؛ إدارة الرئيس ترمب الحالية لم تعد تعبأ بحماية حلفاء الولايات المتحدة التقليديين في معاهدة حلف شمال الأطلسي (النِتو)، لتتجه شرقاً، باستعادة ذكرى الهجوم الياباني على بيرل هاربر، لتكون منطقة الباسفيك الشاسعة والمطلة مباشرة على شواطئ أمريكا الشمالية الطويلة والدافئة ساحة النزال المحتملة مستقبلاً، دفاعاً عن أمن الولايات المتحدة القومي.. وذوداً عن مكانتها الكونية الرفيعة.

لا يمكن استشراف هذا التحول في العقيدة الاستراتيجية لواشنطن، أن يتطور ليصبح عقيدة استراتيجية جديدة لواشنطن، تستند لدعم سياسي وعسكري داخلي. لننتظر بعد انتهاء فترة إدارة الرئيس ترمب الحالية والأخيرة، ربما تتم استعادة الاهتمام الاستراتيجي بجبهة شرق الأطلسي الأوروبية، دون التخلي -بالضرورة- عن جبهة الباسفيك الغربية. لكن الشيء شبه المؤكد أن دول الاتحاد الأوروبي لم تعد تثق في إمكانية استمرار الركون للدعم الإستراتيجي من قِبَل واشنطن.. واستمرار مظلة الحماية الأمنية (النووية) الأمريكية، التي لم تعد «مجانية».. واستبدالها بإمكانات أوروبية ذاتية خالصة.

في النهاية: لن يحك ظهر الاتحاد الأوروبي، أمنياً، إلا أظافر أعضائه، كما هو الوضع الطبيعي لأي دولة، أو أي تكتل إقليمي من الدول، ضمن نظام عالمي معاصر يحكمه نموذج الدولة القومية الحديثة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق