من داخل غرفة مركز القيادة والسيطرة بمشعر منى: كيف تُدار منظومة الحج لحظة بلحظة؟ - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة
بين جدران صامتة لا تنقل شيئًا من صخب الخارج، ينبض قلب الحج النابض في صمت هندسي بديع: غرفة القيادة والسيطرة بمشعر منى. المكان الذي لا يُرى، لكنه يرى كل شيء. في هذا المركز المحصّن بأحدث ما أنتجته تقنيات الرقابة والتحكم، تدار واحدة من أعقد عمليات الإدارة البشرية في العالم، حيث يتجمع الملايين على رقعة محدودة من الأرض، في وقت محدد، لهدف واحد: أداء مناسك الحج.ما أن تعبر إلى داخل الغرفة حتى يتبدّل كل شيء. الضوء خافت، لكن الشاشات عملاقة ومضيئة، تصطف في شكل نصف دائري، تتبدل عليها الصور والخرائط والبيانات كل ثانية، وكأنك أمام مركز عمليات لإطلاق صواريخ فضائية. غير أن “المهمة” هنا تختلف؛ إنها حفظ الأرواح، ضبط النظام، وضمان أن يؤدي ضيوف الرحمن مناسكهم في أمن وسلام.

العقل الذي لا يهدأ

تعمل غرفة القيادة كدماغ إلكتروني متصل بأعصاب تمتد في كل شبر من المشاعر المقدسة. كل زاوية، كل طريق، كل ممر، وكل نقطة تجمع للحجاج، تُرصد بالكاميرات الحرارية والعادية والليلية. المشهد كامل أمام أعين المراقبين: تحركات الحشود، حركة الحافلات، خطوط الطوارئ، النقاط الحرجة، وأي تغير مفاجئ.

كل جزء من المكان يتحرك وفق منظومة مترابطة، أشبه بعقارب ساعة دقيقة. تظهر الحشود كنقاط حية على الخرائط الرقمية، تتحرك ببطء أو سرعة بحسب الزمن والموقع. في لحظة، تتحول نقطة على الشاشة من الأخضر إلى الأصفر ثم الأحمر، دلالة على ارتفاع الكثافة البشرية في موقع ما. عندها، تبدأ الآلة المعقدة في العمل: تُعاد توجيه المسارات، وتُنقل فرق الدعم، ويُفتح مسار بديل، كل ذلك دون أن يشعر الحاج بأي ارتباك.

أعين لا تغفو

هنا، لا تنطفئ الشاشات، ولا تتوقف الحركة. كل فريق داخل الغرفة يؤدي دورًا محددًا، بدقة تامة، كأنهم عازفون في أوركسترا ضخمة. في أحد الجوانب، فريق يتابع تدفق الحشود لحظة بلحظة. في جانب آخر، يتعامل فريق مع البيانات اللحظية الواردة من الحافلات ومراكز الإيواء والمستشفيات. وفي زاوية أخرى، تُعرض صور حية من أكثر من 5000 كاميرا مراقبة، موزعة بعناية على كامل المشعر.

البيانات ليست مجرد أرقام، بل قرارات فورية. إنذار بسيط قد يعني حياة إنسان. تنبيه على شاشة واحدة قد يُحوّل مسار 10 آلاف حاج. لا مكان للتردد، ولا وقت للانتظار. الكل يعرف مهمته، وكل ثانية ثمينة.

خطة تتحرك كالساعة

تم تصميم الخطة التشغيلية للحج بطريقة تجعلها قادرة على التفاعل مع المتغيرات لحظة بلحظة. لا وجود للجمود، فكل طارئ يُقابل برد فعل مباشر. لو ازدادت درجة الحرارة مثلًا، يتم توجيه فرق التوعية والرش الآلي. لو حدث تكدس، تُفعّل المسارات البديلة. لو سقط حاج على الأرض، تلتقطه الكاميرا، ويُرسل له الدعم خلال دقائق معدودة.

الحركة هنا ليست عشوائية. كل حافلة مرصودة، وكل حاج مسجل في النظام، وكل خدمة مرتبطة بإحداثيات جغرافية دقيقة. لا مجال للضياع، ولا فسحة للارتجال. حتى الحالات الخاصة من الحجاج – كبار السن أو أصحاب الأمراض المزمنة – يؤخذون في الحسبان ضمن منظومة متابعة ذكية، تراقب تنقلاتهم وتوجههم عند الحاجة.

هندسة الزمن والمسار

من بين الجوانب المذهلة أن المركز لا يكتفي بالمراقبة، بل يتوقع مسبقًا. أنظمة الذكاء الاصطناعي المحمّلة بالبيانات التاريخية للحج تساعد على رسم سيناريوهات متعددة. متى يتوقع ازدحام؟ أي الطرق ستكتظ أولًا؟ كم تستغرق الحشود لعبور جسر الجمرات؟ كل هذه الأسئلة تُجيب عنها الأنظمة قبل أن تحدث، وتُبنى عليها القرارات.

التحكم بالزمن هو أهم سلاح. الزمن هنا ليس مجرد ساعات وأيام، بل لحظات تُحسب بدقة متناهية، لأن التأخر البسيط في استجابة أو قرار، قد يؤدي إلى تدافع أو أزمة صحية. لذلك، كل شيء يُدار بديناميكية عالية تعتمد على التوقع والاستجابة اللحظية.

صوت الحج الصامت

ورغم كل هذا الحضور التقني والإداري، فإن داخل هذه الغرفة هدوء لا يشبه ما في الخارج. لا صخب، لا أصوات مرتفعة، لا انفعالات. الصمت مهيب، تتخلله فقط أصوات التنبيهات والاتصالات اللاسلكية السريعة. هناك نوع من الاحترام الصامت لقدسية المهمة التي تؤدى داخل الجدران. الأمر لا يتعلق فقط بالإدارة، بل بالمسؤولية أمام الله، وأمام أرواح الملايين.

في الختام: عبقرية لا تُرى

حين يغادر الحاج مشعر منى مطمئنًا، آمنًا، وهو لا يعلم ماذا حدث خلف الشاشات، فهو في الواقع شاهد على إنجاز خفيّ، لا تُدوّنه عدسات الإعلام، لكنه يُكتب في سجل الكفاءة البشرية السعودية.

غرفة القيادة والسيطرة في مشعر منى ليست مجرد غرفة عمليات، بل هي عقل حي، نبضه لا يتوقف، يرسم خطوات الحشود بدقة متناهية، ويقودهم من مشعر إلى آخر كما تقود النجوم البحّار في عتمة البحر.

من هنا، من هذا المكان الصامت والمضيء، يُدار الحج لحظة بلحظة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق