وبما أن الكتاب يقرأ من عنوانه، فإننا عرفنا المحتوى العام.. قصائد مجهولة، لم تنشر لشاعر كبير، وجدت في محفوظات الشاعر، ومحفوظات أصدقاء محبين له.. لكن يظل المعنى الدقيق خافياً، وملابسات عدم النشر في حينه قائمة. إن ما نحن بصدده عبارة عن جزء مجهول من فكر الشاعر الفيلسوف حمزة شحاتة، أحسن الدكتور غازي جمجوم في إخراجه للناس، خاصة محبي الشاعر، وهم كثر. ولا أدري، في الواقع، لِمَ احتجبت هذه القصائد، ولم تر النور، إلا مؤخراً، وبعد رحيل الشاعر بـ 75سنة؟
****
يقع الكتاب في 115 صفحة، من الحجم المتوسط. وقسم إلى 31 قصيدة، بعضها قد لا تكون للشاعر، كما وضح الدكتور غازي. محسوبكم ليس بناقد أدبي، ولكنني أزعم بأني ناقد ومحلل سياسي متواضع. ثم أنى أتذوق الشعر، وأعشق الأدب. لذا، سأحاول قراءة بعض هذه القصائد من الزاوية السياسية؛ لنرى الجانب السياسي من هذا الجزء من فكر حمزة شحاتة. ويتساءل البعض هنا، ومعهم الحق: هل لهذه القصائد جانب سياسي؟ وأقول رداً على هذا التساؤل القيم: لا يخلو فكر أي شاعر، أو مفكر من سياسة، وإن توارت خلف زخم المشاعر المختلفة. فالسياسة في دم كل إنسان راشد عاقل. والشاعر الكفوء غالباً ما يتناول الشأن العام (السياسة) أو على الأصح، جزئية من الشأن العام، واصفاً، أو موجهاً، أو ناقداً، أو ناصحاً. ناهيك عن الشاعر الوطني، والقومي، المجيد والفذ، حال المفكر شحاتة. ومن الوهلة الأولى، وجدت السياسة حاضرة في شعر حمزة شحاتة، السابق واللاحق، وإن في بعض القصائد وحسب.
****
القصيدة الأولى بعنوان «يا ليل ما ذكراك». وفي هذه القصيدة يخاطب الشاعر نفسه بالرمز، أو الكنية، التي اختارها واشتهر بها، وهي «الليل». وهي قصيدة مطولة جداً، إذ تقع في 159 بيتاً.
من ضمن تعريفات «السياسة هي: الأهداف التي يسعى طرف لتحقيقها تجاه طرف آخر، والوسائل التي يتبعها، لتحقيق تلك الأهداف. ويمكن اعتبار الشاعر الكبير - في هذه القصيدة - محباً مخلصاً.. مضنى ومتعذباً وصابراً.. ووسيلته هي العتب على القدر، ورجاء «الرحمة» من المحبوب، مع الاحتفاظ بالإباء وعزة النفس. فشاعرنا هو «سياسي» مع محبوبته، إذا سلمنا بهذا المدخل. ونكتفي هنا - لضيق الحيز - بالإشارة إلى أن هذه القصيدة تحفل بالسياسة الرومانسية، إن صح التعبير. فإلى القصيدة السياسية البحتة.
****
والقصيدة الوحيدة في ديوانه المنقذ من النسيان الكامل، التي وردت بعنوان «سياسة».. كانت عبارة عن 9 أبيات (ص 93). ولقصرها، وكونها سياسية خالصة، نورد نصها، في ما يلي، ومن ثم تحليل أبياتها:
ما بين ضجة إقلاع وإرساء أرى السياسة تجرى خبط عشواء
تجمعوا ليطبوا الداء وافترقوا مزودين على أين بأدواء
كل لوجهته ماضٍ تسيره أهواؤه، بين كتمان وإفشاء
أخبار ذات صلة
قالوا توحدت الأهداف، وائتلفت صفاً، وكيف ائتلاف النار والماء
هنا قوى وسلطان أن تقوم على جهد القوى، من ملايين الأرقاء
وثم دعوة ثوار تشد على معاقل الظلم من رق وأحياء
ضدان ما اجتمعا إلا ليفترقا، وما مودة هدام لبناء
يا رائد النور في ظلماء مطبقة أضناك سعيك خلف المطلب النائي
****
هذه القصيدة سياسية تماماً، وحسب وصف قائلها. ويبدو أنها قيلت لوصف الوضع السياسي العربي المهترئ، والمتمثل في اجتماعات المسؤولين العرب، على كل المستويات، لبحث الشأن العام العربي. البيت الأول يصف تحركات بعض المسؤولين (الساسة) العرب، جيئةً وذهاباً، سائرين في إطار سياسي غير منهجي، وحافل بالسياسة السلبية، التي تنعكس بالسلب، على من عملت لهم. فأهم المسؤولين العرب يجتمعون، وكل منهم يحمل حلاً متناقضاً مع الآخر (البيت الثاني). الأمر الذي ينتج التوتر، ولا يحل مشكلة.
والبيت الثالث يؤكد ما جاء في البيت الثاني.. حيث كل منهم له وجهة معينة، تختلف عن زميله، سواء أعلنت هذه الوجهة، أم بقيت طي الكتمان. بينما الشعوب العربية - التي قصدها - البريئة تنظر بأمل لهذه الاجتماعات. (البيت الرابع) ولكنها تحبط، ويتضح أن ما صدقته تبخر. حيث قالوا توحدت الأهداف، ولكن اتضح أنها لم تأتلف، فكيف تتفق الماء مع النار؟ (البيت الخامس)، فهناك قوى متمكنة، يؤيدها كثيرون (اليمين العربي)، وهناك القوى الثورية (اليسار العربي) بما معناه، كما جاء في البيت السادس، والبيت السابع. والبيت الثامن جاء ليؤكد ما قيل قبله: ضدان، ما اجتمعا إلا ليفترقا، يتناوبون على البناء والهدم. ويختتم هذه القصيدة البيت التاسع، بالحديث عن موقف المفكر العربي (رائد النور) وهو يتابع هذا التخبط، وهذه العشوائية، ولا يرى الأمل المطلوب يتحقق. فقد أمسى نائياً، وبعيد المنال.
****
يا له من وصف رائع لمعظم الحال السياسي العربي، الذي عايشه. وهذا الوصف ما هو إلا تحليل سياسي صادق، ودقيق. إن شعر هذا الشاعر الفذ يجعل قارئه يعيش في الأجواء الحقيقية لما يقصد وصفه. إن وصف (تحليل) هذا تأثيره، يجعل قائله في قائمة الشعراء المفكرين، الذين تحتفي شعوبهم بإنتاجهم، وتفخر بهم، وتحيي ذكراهم.
شكراً لسعادة أخي الأستاذ الدكتور غازي عبداللطيف جمجوم، على ما قام به من عمل جميل، يحسب له كأكاديمي متميز، محب للأدب، رغم أن تخصصه الطب. وهذا غير مستغرب، فكثير من أفضل الشعراء، والساسة، في العالم، هم من الأطباء الناجحين. والشكر موصول لكل الذين ينبشون (يبحثون) في تراثنا.. مستعرضين نفائسه، وعارضين لآلئه، وأصدافه، قبل أن يطويها النسيان.
0 تعليق