حين تكون الحضارة عمياء عن النفس - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة
اختصر الإنسان المسافات وحقق رفاهية كانت يوماً خيالاً، لكن خلف هذا البريق تتزايد مشاعر القلق، تنتشر حالات الاكتئاب، وتتوتر العلاقات، ويظهر فراغ وجودي متصاعد يصعب تجاهله. المشكلة ليست في التقدم نفسه، بل في غياب التوازن بين الإنجاز الخارجي وعمق الإنسان النفسي والروحي، فبينما تتطور الأدوات يُهمَل الإنسان بوصفه كائناً يحمل تاريخاً داخلياً معقّداً.

رأى «فرويد»، أن الحضارة تُكلف الفرد كبتاً مقابل الاستقرار. أما اليوم، فالغرائز لا تُقمع بل تُستثمر وتُشوَّه؛ تُستغل الرغبة، يُسوّق الجنس، وتُترك الدوافع بلا بوصلة، فتتولّد فوضى نفسية من نوع جديد. العدوان لم يختفِ، بل تغيّر شكله، صار إقصاءً مموّهاً وتنافساً خفياً. العنف لم يعد في الصراخ والجسد فقط، بل في اللامبالاة والتهميش الصامت، وفي علاقات يغلفها جدار خفي من التجاهل.

تتسرب هذه الفوضى إلى الإعلام، ومنصات التواصل، والعلاقات اليومية؛ رغبات بلا حدود، توجهات متضاربة، وعدوانية مموّهة تسكن التفاصيل. هذا لا يعني أننا نعيش في كارثة، بل نمر بتحوّلات دقيقة تتطلب وعياً جديداً. فالقلق اليوم لا ينشأ فقط من القمع، بل أحياناً من غياب الحدود وفقدان المعنى وسط انفتاح متسارع.

الإنسان لا يحتاج إلى تفريغ رغباته فحسب، بل إلى فهمها، وبناء علاقة ناضجة مع ذاته وظله. غير أن فهم الذات مهمّش في مؤسسات تكرّس الإنجاز على حساب الوعي، وفي بيئات العمل تقاس فيها قيمة الفرد بما يُنتجه، لا بكيفية حضوره.

أخبار ذات صلة

 

الإعلام يضخ الإثارة لا الأسئلة، فيما تختزل بعض الخطابات الدينية العلاقة مع الذات بثقافة الذنب، لا بالتأمل والفهم، والأسرة تتحول أحياناً إلى وحدة رعاية بالامتثال قبل الاكتشاف. النتيجة: إنسان ناجح ظاهرياً، مشوَّش داخلياً.

حضارة لامعة تقنياً، لكنها تصطدم بأسئلة أخلاقية وروحية مؤجلة. ما نحتاجه ليس المزيد من التقدّم، بل يقظة تضع الإنسان في مركز الصورة، لا كوسيلة بل كغاية. فهم الذات ليس ترفاً، بل ضرورة حضارية.

الصحة النفسية حق، والوعي بالذات أساس لتوازن المجتمع. هذه دعوة لبناء العالم من الداخل: من الإنسان الذي يستحق أن يُفهَم لا أن يُختزَل. لسنا في أزمة أدوات، بل في أزمة رؤية: هل الإنسان مظهر أم جوهر؟ وظيفة أم معنى؟ فحين يغيب المعنى، يفقد التقدم قيمته.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق