يمثل تراجع الدولار الأمريكي بنسبة تقارب 8% منذ مطلع عام 2025 فرصة غير متوقعة للاقتصاد المصري، إذ إن هذا الانخفاض، الناجم عن تحول في توجهات السياسة النقدية الأمريكية، أعاد توجيه حركة رؤوس الأموال نحو الأسواق الناشئة، لتبرز مصر بصفتها إحدى أبرز الدول المستفيدة. وقد انعكست هذه التحولات إيجابيًا على مصادر الدخل الرئيسية مثل السياحة، وأدت إلى تحسن في ميزانية البنك المركزي المصري.
يرى خوليو ألونسو، الخبير الاقتصادي السياسي والشريك في شركة القبس الليبية للاستشارات، أن ضعف الدولار الحالي ليس مجرد أمر مؤقت، بل هو على الأرجح بداية مسار انخفاض طويل الأمد، أو على حد قوله: "ضعف الدولار لا يُعزى فقط إلى دورات اقتصادية تقليدية، بل يعكس خللاً هيكلياً أعمق". وأشار إلى وجود توقعات بأن يعين الرئيس دونالد ترامب رئيسًا جديدًا لمجلس الاحتياطي الفيدرالي يتبنى سياسة نقدية مرنة تقوم على خفض أسعار الفائدة. وأضاف ألونسو أن المستثمرين بدأوا بالفعل في سحب استثماراتهم من الأصول الأميركية، مفضلين توجيهها نحو الأسواق الناشئة.
في مصر، كما هو الحال في العديد من الاقتصادات الناشئة، ينعكس تراجع الدولار الأميركي بمزايا ملموسة، أبرزها الانتعاش الملحوظ في قطاع السياحة. ونظرًا إلى ارتباط الجنيه المصري بالدولار، فإن انخفاض قيمة العملة الأميركية يمنح عملات مثل اليورو قدرة شرائية أكبر في القاهرة، مما يعزز جاذبية مصر بوصفها جهة سياحية للسياح الأجانب. نتيجة لذلك، أصبح بإمكان المجموعات السياحية الأوروبية وغيرها من الزوار الاستمتاع بإقامات فندقية ورحلات نيلية بأسعار أوفر وبعملاتهم المحلية.
ووفقًا للإحصاءات الرسمية، سجّلت مصر في عام 2024 رقمًا قياسيًا غير مسبوق في قطاع السياحة، فقد استقبلت نحو 15.8 مليون سائح، وبلغت إيرادات السياحة 15.3 مليار دولار. تشكل هذه الإيرادات دعامة محورية للحسابات الخارجية لمصر، وقد اكتسبت زخمًا إضافيًا في الآونة الأخيرة مع تزايد الإقبال على المواقع الأثرية والمنتجعات الساحلية في ظل انخفاض تكلفة الدولار.
تحظى تحويلات المصريين العاملين بالخارج بفائدة كبيرة أيضًا، نتيجة تراجع قيمة الدولار الأميركي. فهذه التحويلات، التي بلغت نحو 22 مليار دولار خلال السنة المالية الماضية، تُعد أحد أهم مصادر العملة الصعبة في مصر. ومع انخفاض قيمة الدولار، ترتفع القوة الشرائية للتحويلات القادمة بعملات مثل اليورو والجنيه الإسترليني.
فعلى سبيل المثال، يُمكن للمصري المُقيم في الخارج الذي يتقاضى راتبه باليورو أو الجنيه الإسترليني، أن يحصل على مقابل أعلى بالجنيه المصري عند انخفاض الدولار، مما ينعكس إيجابًا على القوة الشرائية للأسر المتلقية للتحويلات، ويدفع بعجلة الاستهلاك المحلي.
يسهم ضعف الدولار أيضًا في تخفيف العبء الناتج عن فاتورة الواردات في مصر، لا سيّما أن العديد من السلع الأساسية مثل النفط والقمح تُسعَّر بالدولار. وبالنسبة لدولة تعتمد بشكل كبير على الاستيراد مثل مصر، فإن تراجع العملة الأميركية يُترجم إلى انخفاض تكلفة شراء السلع الحيوية.
وقد أدى انخفاض تكلفة الواردات إلى تحسن ملحوظ في مؤشرات التضخم، فقد تراجع معدل التضخم السنوي من أكثر من 30% في العام الماضي إلى نحو 13% في مارس 2025، ويرجع ذلك جزئيًا إلى استقرار أسعار الغذاء والطاقة. هذا التباطؤ في التضخم أتاح للبنك المركزي المصري مساحة للإبقاء على أسعار الفائدة دون تغيير، مما ساعد على خلق بيئة أكثر استقرارًا وجاذبية للمستثمرين وقطاع الأعمال.
تتكامل هذه العوامل لتُعزّز الاستقرار الاقتصادي الكلي في مصر. فقد واصلت احتياطيات النقد الأجنبي ارتفاعها المطّرد، لتصل إلى نحو 47.7 مليار دولار في مارس 2025، وهو أعلى مستوى لها منذ سنوات.
وقد جاء هذا الارتفاع مدعومًا بازدهار عائدات السياحة، واستمرار تدفق تحويلات المصريين بالخارج، وعودة تدفقات رؤوس الأموال. سجلت الاستثمارات الأجنبية المباشرة في مصر قفزة غير مسبوقة، فقد بلغت نحو 46 مليار دولار خلال السنة المالية المنتهية في يونيو الماضي، وهو ما يمثل تقريبًا 11 ضعف حجم التدفقات الاستثمارية قبل عشر سنوات، نتيجة لزيادة ثقة المستثمرين الدوليين في مستقبل الاقتصاد المصري وآفاق نموه. وكان من أبرز العوامل التي دفعت إلى تحقيق هذا الرقم القياسي تنفيذ مشروع ضخم على الساحل المتوسطي بلغت قيمته 35 مليار دولار.
كما عاد مستثمرو المحافظ المالية بقوة، ويتضح ذلك من انتعاش سوق الأسهم وارتفاع الطلب على إصدارات السندات الحكومية الأخيرة.
يشيد المسؤولون في القاهرة بهذه المكاسب بوصفها دليلاً على صلابة الاقتصاد المصري. فبعد سنوات من الإصلاحات والتحديات العالمية، ترى حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي أن جهودها بدأت تؤتي ثمارها في ظل الظروف العالمية المواتية.
ويؤكد المسؤولون أن العلاقات الاستراتيجية مع الحلفاء الخليجيين والدعم من المقرضين الدوليين قد عزز من أوضاع مصر المالية، مما مكنها من الاستفادة من تراجع الدولار.
وقال السيد ألونسو: "يمثل هذا الوضع رياحًا مواتية تهب في التوقيت الأمثل لصالح القاهرة. فضعف الدولار، مقرونًا بإصلاحاتنا الاقتصادية، يعزز من متانة الاقتصاد ويمنح صناع القرار متنفسًا أوسع للتحرك بمرونة. والتحدي الجوهري الآن هو تسخير هذه الفرصة لترسيخ الاستقرار المالي، وبناء حصون وقائية تقي الاقتصاد صدمات المستقبل".
رغم أن التيارات العالمية قد تتبدل فجأة، فإن هذا التبدل الأخير من تراجع الدولار يصب في مصلحة مصر، ويمنحها مكاسب واضحة في ميادين التجارة والسياحة والاستثمار. وبينما تتقلب الأوضاع في المنطقة، تمضي مصر بخطى واثقة، مدفوعة بهذه الرياح المواتية التي تعد بمركز الصدارة الاقتصادية الإقليمية.
اقرأ أيضاً
جولد بيليون: تراجع الدولار يدعم صعود الذهب لمستويات قياسية عند 3389 دولاراًارتفاع أسعار الذهب عالمياً بدعم من تراجع الدولار لأدنى مستوى في أسبوع
0 تعليق